باب ما يفسد الصوم، ويوجب الكفارة
وما يحرم فيه أو يكره أو يجب أو يسن أو يباح
من أكل أو شرب أفطر (ع)، خلافاً للحسن بن صالح فيما ليس بطعام ولا شراب، مثل أن يستف تراباً، وخلافاً لبعض المالكية فيما لا يُغذِّي ولا ينماع في الجوف كالحصاة(182)، وإن استعط بدهن أو غيره فوصل إلى حلقه (و)، أو دماغه (م)، أفطر.
وقال في «الكافي»: إلى خياشيمه؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم الصائم عن المبالغة في الاستنشاق. وعن علي: الصائم لا يستَعِط. وكالواصل إلى الحلق، وعند الحسن بن صالح وداود: لا يفطر بواصل من غير الفم؛ لأن النص إنما حرم الأكل، والشرب، والجماع(183).
وإن اكتحل بكُحْل أو صبر، أو قَطُور، أو ذَرُور إثمد مطيب، فعلم وصول شيء من ذلك إلى حلقه، أفطر. نص عليه، وهو المعروف، وجزم في «منتهى الغاية»: إن وصل يقيناً أو ظاهراً أفطر، كالواصل من الأنف؛ لأن العين منفذ، بخلاف المسام، كدهن رأسه، ولذلك يجد طعمه في حلقه ويَتَنخَّعُه على صفته، ولا أثَرَ كون العين ليست منفذاً معتاداً، كواصلٍ بحقنه وجائفة.
ولأبي داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: «ليتقه الصائم». قال أحمد وابن معين: حديث منكر، واختار شيخنا: لا يفطر (و م ش) (184).
وإن قطر في أذنه شيئاً فدخل دماغه أفطر، خلافاً للأوزاعي، والليث، والحسن بن صالحٍ، وداود، ومذهب (م) إن دخل حلقه أفطر، وإلا فلا.
وإن داوى جُرحَه، أو جائفته، فوصل الدواء إلى جوفه (م) وأبي يوسف ومحمد، أو داوى مأمومته، فوصل إلى دماغه (م) وأبي يوسف ومحمد، أو أدخل إلى مجوَّفٍ فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء شيئاً من أي موضع كان، ولو كان خيطاً ابتلعه كله (و هـ ش) أو بعضه (هـ) أو طعن نفسه، أو طعنه غيره بإذنه بشيء في جوفه، فغاب هو (و هـ ش) أو بعضه (هـ) فيه، أو احتقن بشيء (م ر)، أفطر؛ لوصولِهِ إلى جوفِهِ باختيارِهِ، كغيره؛ ولأن غير المعتاد كالمعتاد في الواصل، فكذا في المنفذ، وفساد الصوم متعلق بهما، ويعتبر العلم بالواصل(185)، وجزم في «منتهى الغاية» بأنه يكفي الظن، كما سبق. كذا قال.
واختار شيخنا: لا يفطر بمداواة جائفة ومأمومة ونحو ذلك، ولا بحقنه. وعند أبي ثور: يفطر بالسعوط فقط.
وإن حجم أو احتجم أفطر. نص عليه (خ)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم». قال أحمد: فيه غير حديث ثابت، وقال إسحاق: ثبت هذا من خمسة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: وحديث شداد صحيح تقوم به الحجة، وصحح الترمذي حديث رافعٍ، وذكر عن البخاري أنه صحح حديث ثوبان وشداد، وصححهما أحمد. وعنه: إن علما النهي(186). وله نظائر سبقَتْ، ولم يذكر الخرقي «حجم»، وذكر «احتجم». كذا قال، ولعل مراده: ما اختاره شيخنا أنه يفطر الحاجم إن مص القارورة، وإلا لا، وظاهر كلام أحمد والأصحاب: لا فطر إن لم يظهر دم، وهو متجه، واختاره شيخنا، وضعف خلافه، وذكر ابن عقيل أنه يفطر وإن لم يظهر دم، وجزم به في «المستوعب»، و«الرعاية»(187).
ومَنْ جرح نفسه لا للتداوي، بدل الحجامة، لم يفطر؛ لأن النهي لا يختص الصيام، وكخروج الدم يفطر على وجه القيء، لا على غير وجه القيء، ذكره في «الخلاف»(188)، ولا يفطر بالفصد، جزم به القاضي، وصاحب «المستوعب»، و«المحرَّر» فيه وغيرهم؛ لأن القياس لا يقتضيه. وذكر في «التلخيص» أن هذا أصح الوجهين، والثاني: يفطر، جزم به ابن هبيرة عن أحمد.
وذكر شيخنا أنه أصح في مذهب أحمد، فعلى هذا: قال صاحب «الرعاية»: يحتمل التشريط وجهين، وقال: الأولى إفطار المفصود والمشروط دون الفاصد والشارط(189)، وظاهر كلامهم: لا فطر بغير ذلك.
واختار شيخنا أنه يفطر من أخرج دمه برعاف وغيره، وقاله الأوزاعي في الرعاف، ومعنى الرعاف: السبق، تقول العرب: فرس راعف، إذا تقدم الخيل، ورعف فلان الخيل، إذا تقدَّمَها، فسمي الدمُ رُعافاً؛ لسبقه الأنف، وهو بفتح العين في الماضي، وفتحها وضمها في المستقبل، وضمها فيهما شاذ(190)، ويقال: رماح رواعف: لما يقطر منها من الدم، أو لتقدمها في الطعن، والراعف: طرف الأرنبة(191).
وإن استقاء فقاء (و) أي شيءٍ كان (و م ش) أفطر؛ لخبر أبي هريرة: «مَنْ ذرعَهُ القيء، فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً، فليقض». وهو ضعيف عند أحمد، والبخاري، والترمذي، والدارقطني، وغيرهم. ويتوجه احتمال: لا يفطر. وذكره البخاري عن أبي هريرة، ويروى عن ابن مسعودٍ، وابن عباسٍ، وعكرمة، وقاله بعض المالكية، وعنه: يفطر بملء الفم، اختاره ابن عقيل (وهـ)، وعنه: أو نصفهِ، كنقض الوضوء، وعنه: إن فَحُشَ أفطر، وقاله القاضي، وذكر ابن هبيرة أنه الأشهر، وذكر الشيخ وغيره الأول ظاهر المذهب، وذكره صاحب «المحرر» وغيره أصح الروايات، كسائر المفطرات. واحتج القاضي بأنه لو تجشَّأ لم يُفطر، وإن كان لا يخلو أن يخرج معه أجزاء نجسة؛ لأنه يسير، كذا هنا. كذا قال، ويتوجه ظاهر كلام غيرِهِ: إن خرج معه نَجَس، فإن قصد به القيء، فقد استقاء، فيفطر، وإن لم يقصد، لم يَسْتقِئ، فلم يفطر، وإن نقض الوضوء، وذكر ابن عقيل في «مفرداته» أنه إذا قاء بنظره إلى ما يُغْثيه يفطر، كالنظر والفكر (192).
وإن قبل أو لمس، أو باشر دون الفرج، فإن لم يخرج منه شيء، فيأتي فيما يُكرَه للصائم، وإن أمنى أفطر (و)؛ للإيماء في أخبار التقبيل، كذا ذكره الشيخ وغيره، وهي دعوى، ثُمَّ إنما فيها أنها قد تكون وسيلةً وذريعةً إلى الجماع، واحتج صاحب «المحرر» بأن إباحة الله تعالى مطلق مباشرة النساء ليالي الصوم يدل على التحريم نهاراً، والأصل في التحريم الفساد، خرج منه المباشرة بلا إنزال؛ لدليل. كذا قال.
والمراد بالمباشرة الجماع (193)، كما روي عن ابن عباس وغيره، يؤيده أنه هو الذي كان محرَّماً، ثم نُسِخَ، لا ما دونه، مع أن الأشهر لا يحرم ما دونه (194)، ويتوجه احتمال: لا يفطر بذلك، وقاله داود، وإن صح إجماع قبله - كما قد ادعي - تعين القول به(195)، وعن أبي يزيد الضِّنِّي عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل قبَّلَ امرأته - وهما صائمان - قال: «قد أفطر». رواه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، وقال: لا يثبت هذا، وأبو يزيد الضني ليس بمعروف. وكذا قال البخاري وغيره: حديث منكر، وأبو يزيد مجهول.
وإن مَذَى بذلك، أفطر أيضاً. نص عليه (وم)، واختار الآجريُّ، وأبو محمدٍ الجوزي - وأظن وشيخنا - لا يفطر، وهو أظهر (و هـ ش)، عملاً بالأصل، وقياسه على المني لا يصح؛ لظهور الفرق. وفي «الرعاية» قول: يبطل بالمباشرة دون الفرج فقط. كذا قال(196).
وإن استمنى فأمنى أو مذى، فكذلك على الخلاف وفاقاً، وإن كرَّرَ النظر فأمنى أفطر (هـ ش) خلافاً للآجري، وإن مذى لم يفطر في ظاهر المذهب (م)، والقول بالفطر أقيس على المذهب، كاللَّمْس؛ لأن الضعيف إذا تكرر قوي، كتكرار الضرب بصغير في القود، وإن لم يكرر النظر لم يفطر (وهـ ش)؛ لعدم إمكان التحرز. وقيل: يفطر (و م)، ونص أحمد: يفطر بالمني لا بالمَذْي. وكذا الأقوال إن فكَّرَ، فأنزل أو مذى؛ فلهذا قال ابن عقيلٍ: مذهب أحمد، ومالك سواء؛ لدخول الفكر تحت النهي، وظاهر كلامه: لا يفطر (م) وهو أشهر؛ لأنه دون المباشرة وتكرار النظر؛ بخلاف ذلك في التحريم، إن تعلق بأجنبية، زاد صاحب «المغني»: أو الكراهة إن كان في زوجة. كذا قالوا، ولا أظن من قال: يفطر به - وهو أبو حفص البرمكي، وابن عقيل - يسلِّمُ ذلك، وقد نقل أبو طالب عن أحمد: لا ينبغي فعله، وسيأتي إن شاء الله فيما يُكرَه للصائم، وفي الكفارة عن مالك روايتان، والمراد النية المجردة، والله أعلم.
وقد ذكر ابن عقيل: أنه لو استحضر عند جماع زوجته صورة أجنبية محرمة أو ذَكَرٍ، أنه يأثم، وذكره في «الرعاية» أول كتاب النكاح.
ولا فطر ولا إثم بفكر غالب (و)، وفي «الإرشاد» احتمال فيمن هاجَتْ شهوته فأمنى أو مذى: أفطر. وذكر صاحب «المحرر» قول أبي حفصٍ المذكور، ثُمَّ قال: وذكَرهُ ابن أبي موسى احتمالاً.
ويفطر بالموت، فيطعم من تركته في نذرٍ وكفارةٍ(197).